ما الجديد
منتدى الصحراء للدفاع و الأمن

سجل حسابًا مجانيًا اليوم لتصبح عضوًا! بمجرد تسجيل الدخول، ستتمكن من المشاركة في هذا الموقع عن طريق إضافة مواضيعك ومنشوراتك الخاصة، بالإضافة إلى التواصل مع الأعضاء الآخرين من خلال صندوق الوارد الخاص بك

مقالة السودان.. صناعة الفخار تزدهر تحت وطأة الحرب وحرارة الصيف

المراسل الآلي

عضو مميز
المشاركات
74,418
مستوى التفاعل
0
النقاط
1
الدولة
مصر
65d7e119-64aa-4351-9506-a91953ddbc00_16x9_1200x676.jpg

65d7e119-64aa-4351-9506-a91953ddbc00_16x9_1200x676.jpg

تحت شمس لا ترحم، وفي بلادٍ أنهكتها الحرب، عاد الزير — ذلك الوعاء الطيني البسيط — ليحمل على كتفيه عبء الحياة اليومية في السودان. لا من باب الفولكلور، ولا استجابةً لنداء الحنين، بل لأن لا شيء غيره يروي الظمأ في بلد انقطعت عنه الكهرباء، وتبخّر فيه حلم التبريد الحديث.
من أسواق أم درمان إلى أزقة نيالا، مروراً بمدني وكوستي، بات الزير سيّد البيوت وسيد الموقف. لم يعد قطعة ديكور تُهمل في زاوية البيت، بل صار ما يشبه صمام الأمان في صيف الخراب، حين تُطفأ الأنوار، ولا تبقى من وسائل البقاء إلا ما صنعه الأجداد ذات يومٍ بحكمةٍ من طين.

العودة إلى الطين ليست هزيمة​

في الورش القديمة التي عادت للحياة، وفي الأفران الطينية الموزّعة على ضفاف النيل، يشتغل الحرفيون بصبرٍ أشبه بالعبادة.
هناك، حيث تتقاطع الذاكرة مع الحاجة، يُصاغ الزير من طين البحر، يُترك ليختمر كما يُخمّر الصبر، ويُشكّل طبقةً بعد طبقةٍ بأيدٍ حافظت على سرّ المهنة، وأورثته لمن بعدهم كمن يورّث سبيكة ذهب. وتعود صناعة الفخار إلى الحضارة النوبية التي قامت على الجزء الشمالي من السودان قبل 5 آلاف عام.
الفخار يزدهر في الحرب

الفخار يزدهر في الحرب
من جانبه، يقول عبد السلام فضل الله، حرفي من أم درمان، إنه كاد يترك المهنة بعدما هجرتها الأسواق. اليوم، يضحك بحياء متحدثا إلى"العربية.نت"، "صار الناس يطلبون الزير كما كانوا يطلبون الثلاجات ذات يوم... بعضهم يريد زيرين أو ثلاثة، وبعضهم يسأل عن حجز مُسبق". ويضيف أن إنتاجه الأسبوعي الذي لم يكن يتعدى 40 زيراً في السابق، تضاعف الآن، لكنه لا يزال عاجزاً عن تلبية الطلب.

سوق على صفيح ساخن​

الزير لم يعد متاحا للجميع. أسعاره تضاعفت بصورة قياسية. قبل الحرب، لم يكن يتجاوز سعر الزير ألفي جنيه سوداني، أما الآن فتراوح السعر بين 12,000 و25,000 جنيه، وقفز في بعض المناطق إلى 70,000 جنيه للزير الكبير. هذا الارتفاع الجنوني يعود إلى الانفلات الاقتصادي، ونقص المواد الخام، وارتفاع تكاليف النقل والإنتاج، إضافة إلى الطلب المرتفع.
وبينما أصبح الثلج عملة نادرة — وصل سعر القطعة الواحدة منه في أم درمان إلى أكثر من 30,000 جنيه — يجد كثيرون في الزير بديلاً اقتصادياً وطبيعياً. يقول محمد أحمد، من سكان أم درمان لـ"العربية.نت" ، إنه كان يدفع يومياً نحو 6,000 جنيه لفاتورة الثلج، قبل أن يلجأ إلى الزير الذي يوفّر له ماءً بارداً دون تكلفة مستمرة.
أسعار الفخار في السودان ارتفعت على نحو جنوني

أسعار الفخار في السودان ارتفعت على نحو جنوني

أداة للبقاء وذاكرة لا تنطفئ​

لكن المسألة ليست مجرد اقتصاد. الزير، كما يقول كبار السن، يحمل نكهة الماضي. يُغطى بقماشٍ مبلل، ويُعطّر بأعشاب "الحمريب"، وهي عشبة عطرية محلية تُستخدم في السودان، تشبه في رائحتها النعناع البري أو الشيح، وتُعرف بقدرتها على تعطير الماء وطرد الحشرات.
ويُرفق الزير عادة، بكوبٍ فخاري صغير. بعض الأسر تدفنه أياماً قبل الاستخدام، وكأنها تُعيده إلى رحم الأرض ليخرج أكثر استعداداً لاحتضان الماء.
تقول عائشة موسى من أم درمان : "هذا ليس مجرد طين... هذا دفء أمي، وذكريات صباحات لم تكن تعرف الكهرباء، لكنها كانت تعرف البركة".

حرفة تقاوم الاندثار​

في مروي ومناطق شمال السودان، لا يُنظر إلى الزير كمجرد وعاء، بل كامتداد لحضارة. في هذه المناطق، ما زال الفخار يحتفظ بمكانته، لا بوصفه بديلا طارئا فرضته الأزمة، بل باعتباره جزءاً من نسيج الهوية الثقافية المتوارثة.
الفخار صمد خلال الحرب

الفخار صمد خلال الحرب
تصنع الأزيار من طميٍ لزج يُجمع من ضفاف النيل، يُخلط بالجير، ويُعجن حتى يتكوّن مزيج طري يُشكّل يدويًا. يُجفف تحت الشمس، ثم يُحرق في حفرة فخارية لثماني ساعات. بعد التبريد، يُصبح جاهزًا للبيع. وتُلف بعض الأزيار بالخيش المبلل لتسريع التبريد الطبيعي بفعل التبخّر.
ويخضع الزير بين حين وآخر لعملية صيانة، تشمل طلاءه بمسحوق الطوب الأحمر، ما يساعد في تفتيح المسام وتعزيز خاصية التبخر.

رمز ثقافي وروحي​

ويُستخدم الزير كذلك في حفظ الخضروات والفواكه، حيث توضع على خيش رطب تحت الوعاء للاستفادة من الرطوبة. أما في تقليد "السبيل"، فتوضع أزيار الماء أمام المنازل والمساجد وفي قارعة الطريق، ليشرب منها المارة، كصدقة جارية، لا تخلو من بُعد روحي.

من كرمة إلى الحاضر​

في السياق ذاته تقول د. بلسم القارح، المتخصصة في التراث والآثار لـ"العربية.نت"، إن استمرار صناعة الفخار في السودان هو مرآةٌ لصمود المجتمع السوداني في مواجهة الانهيار. وتشير إلى أن الفخار النُّوبي، بدءاً من حضارة كرمة، ثم مروي، وصولا إلى الفترات المسيحية والإسلامية، حمل رموزاً ثقافية وتعبيرية خالدة.
في كرمة، تميز الفخار بالدقة وفوهاته السوداء. وفي مروي، تأثر بالأنماط الإغريقية والرومانية. أما في الفترات اللاحقة، فقد تطورت الزخارف والتزجيج واستخدام الفخار في المعمار.

الفخار أداة بقاء​

في ظل انقطاع الكهرباء وارتفاع تكاليف الحياة، بات الزير "ابتكاراً قديماً" يعاد إحياؤه بقوة، لا ترفاً ولا حنيناً، بل من أجل البقاء. وبينما تتهاوى مظاهر الحياة الحديثة بفعل الحرب، يظل الطين صامدا، حاملاً ذاكرة التاريخ، واحتياجات الحاضر، واحتمالات النجاة.

المصدر: https://www.alarabiya.net/arab-and-...اعة-الفخار-تزدهر-تحت-وطاة-الحرب-وحرارة-الصيف-
 
عودة
أعلى